" إن لم يكن بدً من إغضاب الناس، أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق، أو منافرة الحق، فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك، ولا تنافر الحق" ابن حزم : كتاب الأخلاق والسير

* ففرّوا إلـى الله

الفرار في كل المواطن مذموم إلا في الفرار إلى الله عزّ وجل، والفرار في كل الأحوال خُلق الجبناء، وصفة الخائفين إلا في الفرار إلى الله عز وجل؛ ففي الفرار إليه سلامة ونجاة، وفي اللجوء إليه سعادة وحياة، والفرار إليه عز وقوة، واللجوء إليه مَنَعَة وتحصن، والمخلوق إذا خفته فررت منه {ففررت منكم لما خفتكم} أما الخالق فإذا خفت منه فررت إليه {ففروا إلى الله}
    ففرّ إليه، والجأ إليه، فلن تجد السعادة بعيداً عنه، ولن تهنأ بعيش وأنت تعصيه وتفرّ منه، ابحث عن السعادة في طاعته، وفتش عن الراحة في الإقبال عليه. فرّ إليه فرار الخائف من عدوه، الباحث عن الأمان، المفتش عن المأوى. اطلب العون والمدد منه وحده، واسأله وحده التوفيق والتسديد.
     إذا دهمتك الخطوب، واشتد بك الهم والغم فرّ إليه، وإذا استبدّ بك القلق، واستولى عليك اليأس فرّ إليه، وإذا أحاطت بك المشكلات, وأقضت مضجعك الوساوس فرّ إليه، إذا أقبلت عليك الفتن، وتتابعت عليك المحن فرّ إليه، تجد في ذكره  الراحة والطمأنينة والسكينة، وتلقى في عبادته الهدوء وراحة البال واستقرار النفس.
      إذا أغلقت دونك الأبواب فأبوابه مفتوحة، وهو ملاذك إذا تقطعت بك السُبل، وملجأك إذا ضاقت بك الحِيل، فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه {وضاقت عليهم الأرض بما رحبتم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه}
        فرّ إليه برغبتك واختيارك في الدنيا، قبل أن يأتي يوم القيامة {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ....} وتشهد الأهوال، وترى العظائم {فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر} وتصبح ممن قال الله فيهم {يقول الإنسان يومئذ أين المفر} فيقال له: {كلا لا وزر، إلى ربك يومئذ المستقر}
     فرّ إليه في وقت الرخاء والسراء، وفي كل أحوالك وأمورك، ولا تكن ممن يفرّ إليه في وقت البأساء والضراء، وعند حصول المصائب، وحين اقتراب الموت، وتيقن الهلاك {جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين}
      ابن نوح عليه السلام أراد أن يفرّ من طوفان الماء إلى جبل شاهق، وقال {سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} فهلك {فكان من المغرقين} ولو فرّ إلى الله لنجا وسلم ودخل في عداد من رحم الله {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}
    كل الأمور التي تخاف منها إذا فررت منها ابتعدت عنها إلا الموت؛ فكلما ازددت منه فراراً ازددت منه قرباً {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم}{قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل}
     تاب الفرزدق إلى ربه في آخر حياته، وندم على ما اقترف من آثام، ومما يصور توبته قصيدته التي خاطب فيها إبليس :
أطعتك يا إبليس سبعين حِجةً         فلما انتهى شيبي وتمّ تمامي
فررت إلى ربـي وأيقنت أنني         ملاقٍ لأيام المنون حِمامي

      ففرّ إلى ربك، سلم أمرك إليه، اطّرح بين يديه، أنخ مطاياك ببابه، مرغ جبينك على أعتابه، اهتف باسمه، ناده بجلاله وعظمته، أسأله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.