" إن لم يكن بدً من إغضاب الناس، أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق، أو منافرة الحق، فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك، ولا تنافر الحق" ابن حزم : كتاب الأخلاق والسير

* وقفات مع سيرة الفاروق (1) (اذهب .. فأنت لا تعرفه)

شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشهادة فقال له عمر: لا أعرفك، فائتني بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه. فقال عمر: بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل. فقال عمر: أهو جارك الأدنى الذي تعرفه ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال عمر: فهل عاملته بالدينار والدرهم اللذين يُستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال عمر: فهل رافقته في السفر الذي يُستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. فقال عمر: أظنك رأيته قائماً في المسجد يهمهم بالقرآن، يخفض رأسه تارة ويرفعه أخرى! قال: نعم. قال عمر: اذهب فأنت لا تعرفه!! ثم قال للرجل المشهود له: ائت بمن يعرفك. (سنن البيهقي الكبرى ج10/ص125) 
  
  قصة عجيبة.. تنّم عن فهم راقٍ من عمر رضي الله عنه لحقيقة الإسلام، وتصور عميق للعلاقة المتلازمة بين العبادة والسلوك والأخلاق، والارتباط الوثيق بينها؛ فالأسئلة الدقيقة التي وجهها عمر للرجل، والأمور التي ركّز عليها في هذه الأسئلة، والنتيجة التي خرج بها في نهاية استجوابه للرجل، وجعلها سبباً كافياًً لرد شهادته، تؤكد على أن التعامل البسيط، أو السريع، أو العابر مع أي إنسان، ليس كافياً لإظهار طبيعته كما هي دون تكلّف أو تصنّع، وليس كافياً لإخراج مكنون نفسه، وليس كافياً لسبر أغواره، واكتشاف أعماقه، وليس كافياً لمعرفة أخلاقه على حقيقتها، ورؤية سلوكياته وتصرفاته على سجيتها، بل لا بدّ من وجود تعامل طويل يمتد لفترة غير قصيرة مع هذا الإنسان يجعله يهمل التصنع والتكلف، وينسى التحرز والتخوف، فيتصرف على سجيته، ويتعامل وفق طبيعته، وهذا يظهر بشكل واضح وجلي في المصاحبة في السفر، والمجاورة في المسكن، وفي التعامل المالي بالدرهم والدينار الذي يُعدّ امتحاناً حقيقياً للنفس البشرية المجبولة على الطمع والشح وحب المال، ولا مجال فيه للمجاملة والمداهنة وإظهار الرضا والسكوت بغير قناعة، ويكشف مقدار ورع الإنسان عن التعاملات المالية المحرمة والمشبوهة، ومقدار تحرزه في مكاسبه، وما يطعمه لأهله، ويظهر مقدار جشعه وطمعه وبخله، أو مقدار جوده وكرمه وبذله، ويكشف عن منزلة الدنيا ومتاعها وزخرفها في قلبه.
     قد يتكلف الإنسان في كلمة، أو عبارة، ولكنه لن يستطيع أن يبقى متكلفاً في كل كلامه. وقد يستطيع الإنسان أن يحتاط في بعض سلوكياته وتصرفاته، ولكن الحيطة والحذر لن تلازمه في كل تصرفاته. وقد يتكلف الإنسان في بعض تعاملاته، ويظهر على غير طبيعته، ولكنه لن يستطيع التكلف في كل شيء، وعلى مدار ساعات اليوم، ولابد أن يغفل أو ينسى. قد يكذب الإنسان في مقولة أو خبر على أشخاص لا يلتقي بهم إلا نادراً، ولا يقابلهم إلا لماماً؛ فيصدقونه ويقبلون كلامه، ويمضي كل في حال سبيله، ولكنه لن يستطيع مواصلة الكذب على أشخاص يخالطهم، ويعيش معهم، ويحتك بهم فترات طويلة، فهم سيكتشفون فيه هذه الصفة الذميمة بطول المخالطة والمعاشرة والمعايشة، وهو سينسى ما قاله في كذباته السابقة، ولن يتذكر كل ما قاله واختلقه وألّفه، وسيظهر التناقض في أقواله، وسيصبح حاله مكشوفاً، ووضعه مزرٍ.
     لا تستعجل في الحكم على الشخص من أول نظرة، أو من أول لقاء، وقد يكون هناك حب من أول نظرة كما يقولون، ولكن لا يمكن أن يكون هناك حكم سليم على إنسان من أول نظرة، أو في لقاء عابر، أو تعامل سريع. واعلم أن صلاح الظاهر ليس دليلاً على صلاح الباطن، وفساد الظاهر ليس دليلاً على فساد الباطن؛ فقد يظهر الإنسان ما لا يبطن، وقد يتكلف في أقواه وأفعاله، وقد يجتهد في ستر عيوبه، وإخفاء سوءاته، فلا تستطيع أن تحكم عليه، أو تعرف حقيقته، أو تكتشف طباعه.
     إن الإنسان مظهر وجوهر، ولا ينبغي أن يطغى المظهر على الجوهر، وهناك من الناس من يبالغ في الاهتمام بمظهره ويهمل مخبره، ويصلح ظاهره وينسى داخله. يقول r  (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)(صحيح مسلم)

      إن حال الإنسان مثل حال كثير من الفواكه والخضار، لا تستطيع الحكم عليها بالنظر إلى قشرتها الخارجية فقط، فقد تكون القشرة سليمة، والغلاف جيد، ولكن الداخل فاسد مليء بالدود والعفن والتلف والخراب.