" إن لم يكن بدً من إغضاب الناس، أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق، أو منافرة الحق، فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك، ولا تنافر الحق" ابن حزم : كتاب الأخلاق والسير

* مسؤولية الكلمة في وسائل الإعلام

 للكلمة أهمية بالغة وخطورة كبيرة، وهي سلاح خطير ومؤثر؛ إذا استخدمت في الخير والإصلاح والبناء كان لها نفع كبير وفائدة عظيمة، وإذا استخدمت في الشر والإفساد والهدم كان ضررها كبيراً وخطرها عظيماً، والمشكلات والخصومات والعداوات بين الأفراد والجماعات والدول تبدأ ـ في الغالب ـ بكلمات متبادلة بين الطرفين. والشاعر يقول: 

فإنّ النار بالعودين تذكى      وإنّ الحرب مبدؤها الكلام

     ووسائل الإعلام تعتمد اعتماداً كبيراً على الكلمة سواء منها المكتوبة ( في الصحافة ) أو المنطوقة ( في الإذاعة والتلفاز ) وتشكل الكلمة العمود الفقري الذي يقوم عليه جسم هذه الوسائل .
     وفي المجتمعات التي ل اتدين بالإسلام ليس هناك حدود أو ضوابط أو قيود على حرية الكلمة، أو حرية العاملين في وسائل الإعلام في استخدام هذا السلاح إلا بعض القيود على نشر بعض المعلومات العسكرية بحجة الإخلال بالأمن القومي، وليس هناك رادع من دين أو أخلاق أو قانون، ولذلك تقحم وسائل الإعلام نفسها ـ وخاصة الصحف الشعبية وصحف الإثارة ـ في الأمور الشخصية لبعض المسؤولين أو مشاهير المجتمع وتعطي نفسها حق المراقبة والتجسس والتسجيل والتصوير ونشر الفضائح والأسرار الشخصية .
     أما في الإسلام فإن هناك ضوابط وحدود لاستخدام الكلمة ونشرها وبثها، وتخضع لقوانين الجزاء والثواب والعقاب الدنيوي والأخروي ، والصحفي المسلم مسؤول مسؤولية كاملة عما يقوله أو يكتبه أو ينشره، وليس له كامل الحرية في استخدام هذا السلاح، وكتابة أي موضوع، ونشر أي معلومات، وعليه أن يراقب الله في عمله بشكل دائم، وأن يسأل نفسه قبل كتابة أي موضوع، أو نشر أي معلومة : هل هنالك ومصلحة وخير في كتابة هذا الموضوع أو نشر هذه المعلومة؟ وما الفائدة التي سيجنيها القارئ والمجتمع من وراء هذا الكلام؟ فإن وجد أن هناك مصلحة وخيراً وفائدة من وراء النشر نشره وإلا تراجع وامتنع عن النشر.
     وهناك مجموعة كبيرة من الآفات والأخلاق الذميمة والصفات القبيحة والمعاصي والذنوب الناتجة عن إساءة استخدام الكلمة، وعن عدم إحساس المتكلم بخطورة هذا السلاح، وأنه مسؤول مسؤولية مباشرة وكاملة عما ينطق به. وقد توعد الله عز وجل على هذه الأعمال السيئة بالعقاب في الدنيا والآخرة .
    وهناك مجموعة كبيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ذات الصلة الوثيقة بموضوع الكلمة وكونها أمانة ومسؤولية، سنورد فيما يلي بعضاً منها، مع إيراد بعض أقوال المفسرين وشارحي الأحاديث، بالإضافة إلى بعض التعليقات والتعقيبات المرتبطة  بالواقع الإعلامي والصحفي :
* قال تعالى  {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} ( التوبة 119 ) وقال تعالى ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) ( النحل 105 ) ، (وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم : أيكون المؤمن جباناً ؟ فقال : نعم ، فقيل له : أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : نعم، فقيل له : أيكون المؤمن كذاباً ؟ قال : لا  ) رواه مالك في الموطأ. وهناك آيات وأحاديث كثيرة في الحث على الصدق والتحذير من الكذب، ولكننا للأسف نجد كثيراً من العاملين في وسائل الإعلام لا يتورعون عن استخدام الكذب فيما يقولون ويكتبون وينشرون، وقد برع كثير منهم في اختلاق القصص الإخبارية والموضوعات والتحقيقات، وافتعال لقاءات وأحاديث لم تحصل، والتقوّل على الناس ونسبة بعض الأقوال والتصريحات إليهم رغم أنها لم تصدر عنهم ولم يتلفظوا بها، إلى درجة أن بعض العاملين في وسائل الإعلام لا يعدّ هذه الأمور والتصرفات عملاً قبيحاً وشائناً، ولا يعتبرها داخلة في الكذب والاختلاق، وإنما يراها مهارة وشطارة وذكاء ودهاء، ويفتخر بما يتمتع به من براعة ومقدرة وموهبة وخبرة.
* قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً } ( الأحزاب 70 ) وقد فُسّر القول السديد بأنه القول الصادق الصواب المحكم الدقيق الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف . وقال تعالى { وقولوا للناس حسناً } ( البقرة 83 ) ، { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } ( الإسراء 53 ) ومعنى  يقولوا التي هي أحسن أي يختاروا أحسن وأفضل وأنفع ما يقال ليقولوه على وجه الإطلاق في كل مجال دون تحديد. وكثير مما ينشر ويبث في وسائل الإعلام لا يدخل في دائرة القول السديد، ولا يعدّ قولا للتي هي أحسن، وإنما يدخل ضمن سفاسف الأمور، ويملأ الصفحات وأوقات البث بالضار والغث وغير المفيد، وينـزل باهتمامات الناس وأذواقهم بدلا من الارتقاء بها إلى معالي الأمور، ويضيع أوقاتهم وأعمارهم في أمور تافهة وموضوعات سخيفة وقضايا هامشية. 
* قال تعالى { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } ( ق 17 ـ 18 ) قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآيتين: يكتب الملكان كل ما يتكلم به الإنسان من خير أو شر حتى إنهما ليكتبان قوله: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عُرض قوله وعمله فأُقرّ منه ما كان فيه خير أو شر وألقي سائره، وذلك قوله تعالى: { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } .
* قال تعالى { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ( النور 19 ). وإن من إشاعة الفاحشة بين الناس نشر كل ما يشجع عليها ويؤدي لحدوثها ويوسع دائرتها ويزيّنها ويغري بها من أخبار وموضوعات  أو قصص وروايات.
* قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } ( الحجرات 6 ) . تصل إلى العاملين في وسائل الإعلام الكثير من الأخبار والمعلومات عن طريق مصادرهم الخاصة وعن طريق وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الأخرى فيجب عليهم أن يكونوا حذرين وأن يتثبتوا أولاً ويتحققوا ويتأكدوا من صدق هذه الأخبار وصحة هذه المعلومات قبل نشرها وبثها، وألا يأخذهم الاستعجال وينساقوا وراء المكاسب الإعلامية أو الشخصية لأنفسهم أو للوسيلة التي يعملون فيها بغرض تحقيق السبق الصحفي أو الانفراد.
* يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم ( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ) فليس كل ما يسمعه الإنسان ويصل إلى علمه يصلح لنشره وبثه والحديث عنه ونقله إلى غيره، فهناك الصواب والخطأ، وهناك النافع والضار، وهناك ما يؤدي نشره إلى حصول مصلحة وفائدة، وهناك ما يؤدي نشره إلى وقوع ضرر ومفسدة، وعلى الإعلامي المسلم ألا يكون بوقاً وأداة توصيل لوسائل الإعلام المعادية ودسائسها ينشر وينقل كل ما يصل إليه دون تمحيص وتدقيق وانتقاء للنافع والصالح واستبعاد للضار وغير المفيد.
 * يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) يقول الإمام النووي رحمه الله " اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة ، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وهذا كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء، وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي أن لا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم " .
* يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم ) ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر الذي رواه مالك والترمذي ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) . ما أخطر الكلمة وما أعظم شأنها في موازين الله عز وجل؛ فكلمة خير واحدة لا يتوقف صاحبها عندها، ولا يلقي لها بالاً، ولا يظن أنها ستحدث ما أحدثت من الأثر الكبير والنفع العظيم تكون سبباً في رضوان الله على قائلها واستحقاقه للدرجات العليا في الجنة، وكلمة سوء وشر واحدة لا يتوقف صاحبها عندها، ولا يلقي لها بالاً، ولا يظن أنها ستحدث ما أحدثت من الضرر الكبير والشر المستطير تكون سبباً في سخط الله على قائلها ورميه في قعر جهنم.
* قال تعالى : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً } ( الإسراء 34 ) وقال { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } (النحل 91 ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ( آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان )  وفي زيادة لمسلم ( وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ) . يحصل الصحفي في بعض الأحيان على بعض المعلومات من بعض المسؤولين أو الأشخاص الذين يلتقي بهم، ولكنهم يخبرونه بأن هذه المعلومات ليست للنشر، ويشترطون عليه عدم نشرها، ويؤخذون منه عهداً بذلك والتزاماً صريحاً بعدم نشر هذه المعلومات وإفشائها، ولكن الذي يحدث في بعض الأحيان أن الصحفي يضعف أمام إغراء هذه المعلومات، وتستهويه الرغبة في تحقيق سبق صحفي لنفسه وللصحيفة التي يعمل فيها، فينسى العهد الذي أعطاه، ويتجاهل الالتزام الذي قطعه على نفسه، فيقدم على نشر هذه المعلومات، وهذا تصرف مشين وعمل قبيح لا يليق بالصحفي المسلم أن يتصف به .
* وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من الأحاديث في بيان خطورة اللسان، والتحذير من إساءة استخدامه، ومنها  أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل في الحديث المتفق عليه: أي المسلمين أفضل؟ فقال: من سلم المسلمون من لسانه ويده ) وقال أحد الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أخوف ما تخاف علي؟ فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه ثم قال: هذا ) رواه الترمذي. وفي الحديث الطويل الذي رواه الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه ( ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقال معاذ: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه ثم قال: كفّ عليك هذا، فقال: يا رسول الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ) .