" إن لم يكن بدً من إغضاب الناس، أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق، أو منافرة الحق، فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك، ولا تنافر الحق" ابن حزم : كتاب الأخلاق والسير

* وقفات مع سيرة الفاروق(2) (ولكنّ الله يعرفهم)

قُتل عدد من المسلمين في فتح قندهار، فقال عمر رضي الله عنه للصحابة: من القتلى؟ فذكروا له مجموعة من الأسماء، ثم قالوا: وهناك أشخاص آخرون لا تعرفهم، فدمعت عينا عمر رضي الله عنه، وقال: ولكن الله يعرفهم .  لم يضر هؤلاء الشهداء المجهولين أن عمر لا يعرفهم، ولم ينقص من قدرهم أن عمر لم يسمع بهم من قبل، يكفيهم أن الله يعرفهم، ويكفيهم أن أسماءهم سجلت في سجل الخالدين، وسينساهم الجميع حتى أقرب الناس إليهم، ولكن الله لن ينساهم، ولن يضرهم أن جميع أهل الأرض لا يعرفونهم، طالما أنهم معروفون عند أهل السماء (وذكرهم فيمن عنده) 


كم من الأنبياء الذين لا نعرفهم {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك}  وكم من أتباع الأنبياء، وكم من الصحابة الكرام، وكم من الصالحين والقادة العظام {لا يعلمهم إلا الله}
   وفي كل ميادين الحياة، يوجد جنود مجهولون، ورجال ونساء غير مشهورين، إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يُفتقدوا، منهم من ينفق من ماله، ومنهم من يبذل من جهده، ومنهم من يعطي من وقته، ومنهم من يسعى بجاهه، {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} أسوتهم الأنبياء عليهم السلام {وما أسألكم عليه من أجر}{قل ما سألتكم من أجر فهو لكم}{إن أجري إلا على الله} وقدوتهم الصحابة رضوان الله عليهم، لا ينتظرون شكراً من أحد، ولا يريدون جزاء من بشر {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً}  
     لا يهتمون بما يسمعون من عبارات المدح والثناء، وكلمات الإعجاب والإطراء، ولا يلقون بالاً لسخرية المخذّلين، وتهكّم الفاشلين، ولا يوقف مسيرتهم ما يجدون من نكران للجميل، ومقابلة الإحسان بالإساءة.
    لا مانع لديهم أن تنسب إنجازاتهم للآخرين، ولا يغضبهم أن ينسب الفضل إلى غيرهم، فهذه أمور دنيوية لا تعني لهم الشيء الكثير، فما عند الله خير وأبقى، يكفيهم أن يروا نتائج أعمالهم على المجتمع وأفراده، ويفرحهم الأثر الذي يشاهدونه على من حولهم، يسرون لرؤية حصاد ما غرسوه، ويفرحون لرؤية ما زرعوه وقد أينعت ثمرته، وحان وقت حصاده، ولا يهمهم من سيحصده، ومن سيجني ثماره، ومن سيسجل الإنجاز لنفسه، ومن سينسب الفضل لجهوده الجبارة، وقدراته الخارقة.
    لا يفتخرون بإنجازاتهم، ولا يتحدثون عن أعمالهم، يهربون من وسائل الإعلام وكاميرات المصورين، ويفرون من مواطن الشهرة والظهور, إذا تطاولت الرؤوس للتكريم تطأطأت رؤوسهم، وإذا اشرأبت الأعناق لأخذ الجوائز والهدايا انخفضت أعناقهم، يتوارون عن الأنظار، ويحتجبون خلف الأستار، ينعتون أنفسهم بالتقصير، ويتهمونها بالخلل، يحترقون ليضيئوا لغيرهم، ويسهرون لينام غيرهم، ويتعبون ليرتاح غيرهم.
    غاية أحدهم أن يرى نتيجة عمله على أرض الواقع ، وقمة فرحته أن يشاهد آثار ما قدم من خير أو عمل، ومنتهى سعادته أن يشاهد أفكاره وقد تحولت إلى حقيقة، ومقترحاته وقد تم الأخذ بها، ومشروعاته وقد عمّ نفعها، وتخطيطه وقد تحول إلى واقع ملموس.
    يخلصون في عملهم ابتغاء وجه الله، ويطلبون الأجر منه، ويبتغون الثواب عنده، ويعلمون أنه مطلع على أعمالهم {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} وموقنون بأن عملهم مقدر، وسعيهم مكتوب {فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون} {وما يفعلوا من خير فلن يُكفَرُوه} ومتأكدون بأن ثوابهم حاصل، وأجرهم محفوظ { إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً}
من يفعل الخير لا يُعدم جوازيه        لا يذهب العرف بين الله والناس
إنهم حقاً أشخاص مجهولون، لا يسأل عنهم أحد، ولا يعرفهم أحد ( ولكن الله يعرفهم )