" إن لم يكن بدً من إغضاب الناس، أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق، أو منافرة الحق، فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك، ولا تنافر الحق" ابن حزم : كتاب الأخلاق والسير

* وسائل الإعلام .. المربي الكبير

 إلى سنوات قريبة كانت مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتربية الأخلاقية في المجتمع تنحصر في ثلاث جهات : المسجد والمدرسة والمنـزل حتى دخلت وسائل الإعلام في حياة الناس وبيوتهم ، ولم يعد هناك شخص صغير أو كبير إلا ويتعرض لمجموعة من هذه الوسائل أو لواحدة منها على الأقل، وبالذات التلفاز الذي يعدّ من أخطر هذه الوسائل وأكثرها تأثيراً في حياة الفرد والمجتمع سلباً وإيجاباً، وبدأت هذه الوسائل التي يسميها البعض ( المربي الإلكتروني ) في منافسة هذه المؤسسات الثلاث ومزاحمتها وأخذ زمام المبادرة منها في ظل تراجع وانحسار دور هذه المؤسسات أمام التدفق الإعلامي الكبير المدعوم بفنون العرض والإخراج ، والمنطوي على كثير من عناصر الجذب والإبهار والبريق الذي شدّ الأعين والآذان ، وسحر القلوب واستحوذ على العقول وجعل المضامين والأفكار والقيم والسلوكيات تنساب إلى عقول الناس وتتغلغل في حياتهم دون مقاومة أو رفض ، ولا سيما النشء والأطفال الذين لايتمتعون بالحصانة الكافية ،
وليست لديهم القدرة على تمييز الطيب من الخبيث ، ولم يبلغوا درجة النضج العقلي والوعي الديني الذي يمنعهم من أن يكونوا فريسة وصيداً سهلاً لما يتعرضون له من رسائل ومضامين إعلامية على مدار ساعات اليوم ، وأصبح الطفل يعيش في تناقض كبير بين ما يربى عليه في البيت والمدرسة والمسجد ، وما يقرأه ويسمعه ويشاهده في وسائل الإعلام .
وقد ساهمت هذه الوسائل في ظهور كثير من الأنماط السلوكية الغريبة ، والعادات الدخيلة ، والممارسات المستهجنة  ، وظهر تأثير هذه الوسائل على تصرفات كثير من النشء وسلوكه في البيت والمدرسة والشارع ، و كان لها دور واضح في ارتفاع معدلات الجرائم ولا سيما الأخلاقية منها ، وبدأنا نسمع عن جرائم وحوادث لم نكن نسمع عنها في سنوات سابقة ، وأصبحنا نشاهد تقليعات غريبة في الملابس وتسريحات الشعر  من الذكور والإناث ، وإعجاباً وانبهاراً وتقليداً لكثير من الماجنين والماجنات ممن تملأ صورهم وأخبارهم وفضائحهم عدداً كبيراً من الوسائل الإعلامية المطبوعة والمسموعة والمرئية ، ولم يعد مستغرباً منظر أولئك الشباب الذين يلبسون بنطلونات الجينـز والقمصان المليئة بالصور والرموز والشعارات الدخيلة والمستهجنة، وتعلوا رؤوسهم قصات وتسريحات غريبة ، وتغطي عيونهم نظارات شمسية على مدار ساعات الليل والنهار ، ويتمايلون في الشوارع على أنغام الموسيقى المنبعثة من سماعات  في آذانهم مرتبطة بأجهزة تسجيل صغيرة في جيوب ملابسهم ، ولا يتورعون عن ممارسة كثير من الأعمال المشينة في جرأة عجيبة  واندفاع كبير .
ومن أجل الحدّ من التأثير السلبي لهذه الوسائل لابد من تحصين النشء وتقوية الوازع الديني في داخلهم ، وبناء حصون الوعي الفكري في عقولهم ، وربطهم بدينهم وتقوية صلتهم به ، وتعميق إيمانهم بالله ، وترسيخ مفهوم الحلال والحرام والثواب والعقاب والجزاء الأخروي ومحاسبة النفس ومراقبة الله في نفوسهم ، وتقوية اعتزازهم بدينهم وتمسكهم به وأن لهم الريادة والصدارة بين الأمم والشعوب ، وأنهم أهل الحضارة والرقي والتقدم فلا ينبغي أن يكونوا تابعين لغيرهم مقلدين لهم في كل شيء ، منساقين وراء مايسمعون ويشاهدون دون تروٍ أو تمحيص ، وأن لا يرضوا بالهوان والذل والتبعية لغيرهم ، وأن لايكونوا وعاءً مفتوحاً مشرعاً أبوابه لما تلفظه الشعوب المنحطة من أخلاق ذميمة وتصرفات شائنة وسلوكيات مقيتة لاتقبلها النفوس المؤمنة ذات الفطرة السليمة ، وأن يزداد يقينهم بأنهم ليسوا في حاجة إلى استيراد قيمهم ومبادئهم  وأخلاقهم من جهات أخرى ففي دينهم غنية عن كل ذلك فهو دين المثل العليا والأخلاق الفاضلة والقيم السامية النبيلة والآداب والسلوكيات الرفيعة .
وهناك أمران مهمان ينبغي التأكيد عليهما هنا ، الأول منهما يتعلق بالوالدين وأولياء الأمور وضرورة وجود الوعي الكافي لديهم بخطورة مايقدم لأولادهم في وسائل الإعلام وأنها أصبحت شريكاً لهم في تربية أولادهم مما يستلزم منهم استخدام الأسلوب الانتقائي في اختيار وتحديد مايتعرض له أولادهم من رسائل إعلامية ومضامين فكرية ، وعدم فتح الباب لهم للتعرض لكل ما يكتب وينشر ويبث في هذه الوسائل دون متابعة أو مراقبة أو توجيه ، أما الأمر الآخر فيتعلق بالقائمين على وسائل الإعلام والعاملين فيها وضرورة شعورهم بخطورة الوسائل التي يعملون فيها وأنها وسائل ذات حدين ، وإحساسهم بالمسؤولية العظيمة الملقاة على عواتقهم وأنهم يعملون في وسائل يصل بثها إلى الملايين ، وأن عليهم الاستفادة من الجوانب الإيجابية والإمكانات الفنية الكبيرة والانتشار الواسع لهذه الوسائل في نشر وبث الخير والفضيلة والقيم الأخلاقية ، والتأكيد عليها في كل الوسائل الإعلامية ، وفي كل مايبث فيها بحيث لا يكون هناك تناقض بين مايعرض في وسيلة ووسيلة أخرى ، وما يعرض في برنامج وبرنامج آخر في نفس الوسيلة .