" إن لم يكن بدً من إغضاب الناس، أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق، أو منافرة الحق، فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك، ولا تنافر الحق" ابن حزم : كتاب الأخلاق والسير

* وقفات مع الفاروق(3) وكان وقّافاً عند كتاب الله

قََدِم عيينة بن حصن إلى المدينة، فنـزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر بن الخطاب. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن لعيينة، فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همّ بأن يقع به. فقال الحرّ: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه r : {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}   وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه. وكان وقّافا عند كتاب الله. ( رواه البخاري )

    أخطأ هذا الرجل في حق أمير المؤمنين، وأساء الأدب، وأغلظ في العبارة، وتجاوز الحدّ، مما أغضب عمر، وأثاره، وجعله يهمّ بتأديبه، ومعاقبته على هذا التطاول، وعلى هذا الكلام المجحف الظالم، ولكن ما إن تُليت عليه الآية القرآنية حتى انتهى الموضوع، وقضي الأمر، وحسم الجدال ؛ فالآية صريحة، والأمر بالإعراض عن الجاهلين واضح لا لبس فيه، وعمر وقّاف عند كلام الله، مطيع لأوامره، مجتنب لنواهيه ، تتوقف رغبات نفسه، وينتهي حظها، إذا تليت عليه آيات القرآن.

   من الأمور التي ميزت صحابة رسول الله r، وجعلتهم مختلفين عن غيرهم، وجعلت منهم جيلاً فريداً لا مثيل له على مرّ القرون هو اعتناؤهم بكتاب الله، وتوقفهم عند آياته، وحرصهم على تدبرها، ومعرفة ما فيها من أوامر ونواهٍ، واستجابتهم السريعة والفورية لما تطلبه منهم، وتطبيقها في حياتهم العملية، وفي تعاملهم مع من حولهم.
         عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله r أنهم كانوا يأخذون من رسول الله r عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل. قال فتعلمنا العلم والعمل. ( الدر المنثور )
       وعن ابن عمر قال: لقد عشت برهة من دهري وإن أحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنـزل السورة على محمد r فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن نقف عنده منها كما تعلمون أنتم القرآن، ثم لقد رأيت رجالا يُؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، وما ينبغي أن يقف عنده منه، وينثره نثر الدقل. (الطبراني في الأوسط)
      ونحن اليوم نعيش في عصر قلّ فيه تعظيم كلام الله عز وجل، ولم يعد له تأثير على كثير من المسلمين؛ فالذين يحفظون آيات القرآن كثيرون، والذين يتلونها أكثر، ولكن الذين يتوقفون عندها قليل.
      أين هو المسلم الذي يمارس الكذب فإذا قرأ قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} التزم الصدق، وتوقف عن الكذب إلى غير رجعة؟
      أين هو المسلم الذي يشرب الخمر فإذا قرأ قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} إلى قوله تعالى { فهل أنتم منتهون} قال: انتهيت؟
      أين هو المسلم الذي يتعامل بالربا فإذا قرأ قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } تخلص من المال الحرام، وتوقف عن التعاملات الربوية؟
     وأين... ؟ وأين... ؟  
     لو أن كل مسلم توقف عند ما يتلوه، أو عند ما يسمعه من كلام الله، وحرص على أن يفهم معناه، وما اشتمل عليه من أمر أو نهي، والتزم بما تدعوه إليه الآيات القرآنية، لاختلف حال المسلمين، ولتغيرت حياتهم نحو الأحسن، ولاختفت كثير من المعاصي والذنوب، ولرأيت جيلاً يذكرك بالصحابة والرعيل الأول.
       ليس مهماً كم جزءاً من كتاب الله حفظت، ولا كم آية تلوت، ولا كم ختمة ختمت، ولكن المهم كم آية توقفت عندها، وتدبرتها، وتعلمت منها، واستفدت منها، وغيرت حياتك، واكتسبت منها سلوكاً حميداً، وعملاً رشيداً، أو كانت سبباً في تركك لسلوك ذميم، أو فعل مشين.