" إن لم يكن بدً من إغضاب الناس، أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق، أو منافرة الحق، فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك، ولا تنافر الحق" ابن حزم : كتاب الأخلاق والسير

* العزوف عن الانتخابات.. الأسباب والدلالات

لاحظ المراقبون لانتخابات المجالس البلدية أن هناك إحجاماً كبيراً من قبل فئات كبيرة من المجتمع السعودي عن المشاركة في التسجيل والتصويت، وأن أعداد هؤلاء المحجمين سجلت نسباً مرتفعة في جميع مناطق المملكة باستثناء بعض المحافظات والمدن التي سجلت إقبالاً كثيفاً لدواعٍ مذهبية أو قبلية، وقد أرجع كثير من هؤلاء المراقبين ضعف الإقبال إلى حداثة التجربة في المجتمع السعودي، وقلة الوعي لدى كثير من أفراد المجتمع بثقافة الانتخابات وطبيعتها ودورها وأهميتها، ويمكن القبول والتسليم بأن قلة الوعي الانتخابي سبب لإحجام بعض الأميين، ومحدودي التعليم والثقافة، ولكن لا يمكن التسليم بهذا السبب، ولا يمكن قبول هذا التبرير بالنسبة لقطاع كبير من المتعلمين والمثقفين وحاملي المؤهلات الجامعية، وفيهم من عاش سنوات طويلة في مجتمعات غربية تتعاطى الانتخابات في كثير من أمور حياتها، وفيهم من مارسها في الجامعات التي درس فيها، أو الأندية الطلابية التي شارك فيها.
ويمكن القول أن هناك أسباباً أخرى أدت إلى تجاهل هذه الفئة لانتخابات المجالس البلدية، والتعامل معها  بسلبية وعدم مبالاة، والإحجام عن المشاركة فيها بالتسجيل والتصويت، وكثير منهم لا يتردد في إبداء رأيه، وذكر ملاحظاته، وأسباب عزوفه عندما يتم إثارة موضوع الانتخابات مع زملائه أو المقربين منه أو في المجالس الخاصة. 
 ويمكن إجمال أهم ملاحظاتهم وآرائهم في النقاط التالية :
  ** أن الدولة وأمام الضغوط الداخلية والخارجية الداعية إلى الإصلاح لم تجد مفراً من التفكير في إجراء بعض الإصلاحات، وتقديم بعض التنازلات، ولم تجد أفضل وأسهل من إجراء انتخابات للمجالس البلدية،ففي إجرائها تخفيف للضغوط، وإسكات لبعض الألسن، وفي نفس الوقت فإنها لن تخسر كثيراً، حيث لن يؤدي انتخاب نصف أعضاء هذه المجالس إلى إحداث أي تغييرات أو تعديلات في سياسة الدولة، نظراً لكون المجالس البلدية ليس لها صلاحيات تشريعية أو رقابية، وعملها محصور في نطاق ضيق، ودورها مقتصر على أمور هامشية، ولذلك فإن إجراء هذه الانتخابات لا يعدو كونه لعبة كبيرة تلعبها الدولة لتحقيق مجموعة من الأهداف الداخلية والخارجية، ولذلك فالذين يشاركون في هذه الانتخابات من المرشحين أو الناخبين هم شركاء للدولة في هذه اللعبة شعروا بذلك أم لم يشعروا.
  **  أن هذه المجالس ليس لها قيمة فعلية، أو بعبارة أخرى ( لا تهش ولا تنش ) فصلاحياتها محدودة، ودورها ضعيف،وليس لها تأثير ملموس في حياة الناس،والدليل على ذلك أن الناس عاشوا سنوات طويلة بدون هذه المجالس، ولم يشعروا أن هناك ما ينقصهم، أو ما يفتقدونه،وكذلك الحال بعد عودتها حيث لن يشعروا بوجودها،ولن يحسوا أن هناك تغييراً سيطرأ على حياتهم، ولذلك فهي لا تستحق أن ينبري للترشّح لمقاعدها مجموعة من أفراد المجتمع الجادين، الذين يرغبون في خدمة مجتمعهم خدمة حقيقية، وتحقيق فوائد ملموسة له، ولا تستحق أن يتنافس هذا العدد الكبير من أجل الفوز بمقاعدها، ولا أن يتم صرف هذه المبالغ الطائلة من أجل الوصول إلى هذا الموقع،وعلى العكس من ذلك لو كانت هذه الانتخابات تتعلق بمجلس الشورى أو على الأقل مجالس المناطق فقد يكون هناك ما يشجع على الدخول في انتخاباتها، والتنافس على مقاعدها .
  **  أن أكثر الذين يرشحون أنفسهم في هذه الانتخابات عبارة عن مجموعة من الأشخاص الطامحين إلى المجد والشهرة، والمتطلعين إلى المناصب والوجاهة الاجتماعية، والباحثين عن الأضواء وبريق وسائل الإعلام، ولكل واحد منهم أهدافه الشخصية،ومصالحه الخاصة التي يسعى إلى تحقيقها من وراء هذا الترشيح، وهو يريد الصعود على أكتاف الناخبين، واستغلال أصواتهم في تحقيق أهدافه الشخصية، ومصالحه الخاصة، أما المصلحة العامة، ومصلحة الوطن والمواطن فهي آخر ما يفكر فيه، ولا تعني له الشيء الكثير إلا بالقدر الذي يحتاج إليه في تحقيق أهدافه، وخدمة مصالحه، ولذلك فكثير منهم يجهل أصلاً ما هو المجلس البلدي ؟ وما عمله؟ وما دوره؟ وما صلاحياته؟ والدليل على ذلك أن برامجهم الانتخابية تقدّم للناخبين وعوداً لا يستطيعون تحقيقها، أو أنها لا تدخل أصلاً في صلاحيات المجلس البلدي، ومن المتوقع أن يؤدي دخول كثير من المرشحين إلى هذه الانتخابات إلى نتائج عكسية غير التي كان المرشح يطمح إليها ويسعى إلى تحقيقها؛ فهو في نهاية الأمر لن يفوز بأي من مقاعد المجلس،وسيفقد في الجانب الآخر الذكر الحسن والسمعة الطيبة التي كان الناس يحملونها عنه قبل ترشحه للانتخابات، وستهتز صورته في أذهانهم بعد أن اطّلعوا على بعض الصفات والأمور التي كانت مجهولة لهم .
  **  أن هناك مبالغ كبيرة يتم صرفها على هذه الانتخابات سواء منها ما تصرفه الدولة على الإعداد والتنظيم وتأمين الموظفين وتجهيز المقرات الانتخابية، أو ما يصرفه المرشحون على حملاتهم الانتخابية، وهي مبالغ تصل إلى مئات الملايين على مستوى مناطق المملكة ومحافظاتها، و إنفاقها في هذه الأمور داخل ضمن إضاعة المال الذي نهى عنه النبي r وكان من الأفضل إنفاقها على مشاريع خدمية أو خيرية يستفيد منها المجتمع، ويكون لها أثر ملموس في حياة الناس.
**  أن هذه الانتخابات تعيد بثّ الروح في النعرات الطائفية والمذهبية، والعصبيات القبلية والعنصرية، وتحيي كثيراً مما اندثر واندرس خلال عقود من الزمن، من تنابز بالألقاب، وتفاخر  بالأنساب والأحساب، وتُظهِر إلى السطح كثيراً مما كان يتم تداوله في المجالس الخاصة من تقسيمات وتصنيفات مثل : سني وشيعي، حجازي ونجدي وقصيمي، إسلامي وعلماني، سلفي وصوفي وإخواني وسروري، وسعودي بالأصل وسعودي بالتجنس، وبدوي وحضري، وهذا قَبَلي وهذا لا أصل له. 
ومع كون كثير من هذه الأمور منهي عنها شرعاً،وحذّر منها النبي r،فإنها لا تخلو أيضاً من محاذير سياسية واجتماعية ليس من المناسب إثارتها بين فئات المجتمع، وليس من مصلحة الدولة خروجها من المجالس الخاصة إلى العلن، وتداولها على الألسن، وعبر مواقع الإنترنت ومنتدياته .