" إن لم يكن بدً من إغضاب الناس، أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق، أو منافرة الحق، فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك، ولا تنافر الحق" ابن حزم : كتاب الأخلاق والسير

* خواطر وملاحظات على مايجري في الأفراح من تجاوزات

{وتفاخرٌ بينكم}
قال الله تعالى { اعلمو أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } الحديد 20 . حصر الله عز وجل ­في هذه الآية الحياة الدنيا وقصرها على هذه الأمور الخمسة فقط ( اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر ) وكثير مما يجري في الأفراح من منكرات وتجاوزات وتصرفات داخل ضمن التفاخر بين الأفراد والأسر سواء فيما يتعلق بمكان إقامة الحفل واختيار الفنادق أو الصالات الفخمة التي يصل إيجار بعضها إلى مائة ألف ريال ، أو اختيار بطاقات الدعوة ذات الأشكال الفاخرة والأسعار المرتفعة ، أو المبالغة والتوسع في كمية الطعام المقدم للضيوف حتى إن عدد الخرفان التي ذبحت ، والموائد التي مدّت ، و الحلوى التي قدمت ، والهدايا التي وزعت أصبح مجالاً للتفاخر والتنافس تتناقله الألسن وتتحدث به الركبان .

هل ليلة العمر خير من ليلة القدر ؟

عندما تقول لبعض آباء أو أمهات الزوجين : ماهذه المنكرات والتجاوزات التي حصلت في أفراحكم ؟ تفاجأ بجواب غير متوقع ؛ إنها ليلة العمر، وهي ليلة لا تكرر، وستكون لها ذكريات لاتنسى عند الزوجين وأسرتيهما ، وقد انتظرنا هذه الليلة منذ مدة طويلة ، ولذلك نريد أن نفرح
بهما ، ونطلق لهما ولأقاربهما العنان ليفرحوا ويمرحوا ويحيوا هذه الليلة ، ولا نريد أن نضيق عليهم ونفرض عليهم قيوداً أو نلزمهم بحدود معينة  . يالها من إجابة ، وياله من عذر أقبح من ذنب . إن ليلة القدر التي جعلها الله عز وجل خيراً من ألف شهر ، وورد في فضلها مجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية ، والتي يجاب فيها الدعاء ، وتغفر الذنوب وتضاعف الحسنات ، ومع ذلك فإن الله عز وجل لم يقل لعباده : اعملوا في هذه الليلة ماشئتم من ذنوب ومعاصٍ ومنكرات واحتفلوا بها وأحيوها دون قيود أو حدود فهي ليلة عظيمة ولا تكرر في العام إلا مرة واحدة . فكيف يجيز هؤلاء الأشخاص لأنفسهم أن يرتكبوا في ( ليلة العمر ) مايريدون من منكرات بحجة أنها ليلة تاريخية فريدة لاتكرر .

غلبنا عليه النساء

عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال: (أعرست في عهد أبي ، فآذن (أي دعا) أبي الناس، فكان أبو أيوب فيمن آذنّا وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر ، فأقبل أبو أيوب فاطّلع فرآه فقال: ياعبدالله أتسترون الجدر؟ فقال أبي واستحيا: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب، فقال: من خشيت أن تغلبه النساء  فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاماً، فرجع) ابن حجر، فتح الباري، 9 / 249.



لو بحثنا عن أسباب ازدياد المنكرات والمخالفات في حفلات الزواج لوجدنا أن من أول هذه الأسباب أن الرجل أعطى للمرأة حق التنظيم والترتيب والإعداد والتجهيز لكثير من الأمور المتعلقة بهذه الأفراح ، ولم يكتف بذلك بل وضع تحت يدها المال اللازم لتنفيذ رغباتها وما عقدت العزم عليه ، وأصبح دور كثير من الرجال ينحصر في كونه سائقاً يوفر الطلبات ويحقق الرغبات ، أو أمين صندوق يسدد فواتير المشتريات .
وقد فشلت كثير من النساء في المهمة التي أنيطت بهن فشلاً كبيراً ؛ فالمرأة ـ في الغالب ـ عاطفية وضعيفة تنساق بسرعة وراء المظاهر والشكليات ، وتحب التفاخر والتنافس والإتيان بما لم يأت به الأوائل ، ولا مانع لديها من إحياء ( ليلة العمر ) وتخليدها وجعلها حديث المجتمع ولو كان ذلك بالمعاصي والمنكرات والبذخ والإسراف .
ولم يكتف بعض الرجال بتسليم القياد في حفلات الأفراح لنسائهم ، بل تجاوز بهم الأمر إلى عدم السؤال عن ترتيبات الحفل وتفاصيله ، ولذلك حينما تنكر عليه حدوث بعض المنكرات والمخالفات في حفل زفاف ابنه أو ابنته تفاجأ بإنكاره القوي ونفيه الشديد لحصول شيء من هذه المنكرات في الحفل ، ولكنه يكتشف بعد ذلك أنه آخر من يعلم ، وقد يكون هذا الرجل سأل زوجه وأفراد أسرته عن ترتيبات الحفل فزودوه بمعلومات خاطئة ، أو بعبارة أدق : كذبوا عليه حتى لايفسد عليهم ( ليلة العمر ) بتشدده ورجعيته وعقليته المتخلفة .

فساتين من ورق

نعرف جميعاً أن هناك أكواباً ومناديل من ورق ، وأن هناك ملاعق وسكاكين من بلاستيك ، وأنها تستعمل مرة واحدة ثم تلقى بعد ذلك ، وهو أمر مقبول ومستساغ ، ولكن أن تكون هناك أثواب وفساتين تلبس مرة واحدة ولساعات محدودة ، ثم لا تلبس بعد ذلك لأنها صممت لمناسبة محددة وبمواصفات معينة فهو أمر لايمكن قبوله أو التسليم به ، خاصة وأن هذه الفساتين تكلف مبالغ كبيرة تصل في بعض الأحيان إلى عشرات الألوف من الريالات ، من قال إن المرأة في ليلة زفافها يجب أن تلبس فستاناً أبيض مرصعاً باللآلىء ، ومزوداً بذيل طويل تجره وراءها . ليس في كتاب ربنا ولا أحاديث نبينا ولا أقوال سلفنا مايحث أو يشجع على شيء من هذا القبيل ، ولكنها العادات الدخيلة ، والتقاليد المستوردة ، والعقول الخاوية التي تقلد كل ماتراه ، ماذا يضر المرأة لو لبست في هذه الليلة فستاناً بتكلفة معقولة يصلح لهذه المناسبة ولغيرها بحيث يمكن أن تلبسه بعد ذلك في مناسبات أخرى دون حرج أو تردد ، وليس بالضرورة الاقتصار على اللون الأبيض .

لكل سهرة فستان

والحديث عن فستان الزوجة يقودنا للحديث عن فساتين المدعوات إلى حفل الزواج ، فقد قضى ( قانون الأفراح ) وتعارفت النساء فيما بينهن أنه لايمكن للمرأة  أن تحضر أكثر من حفل زفاف بفستان واحد ، وأن عليها أن تجهز لكل فرح فستاناً ، ولو حصل أن تجرأت وحضرت أكثر من حفل بفستان واحد فإنها لن تسلم من أعين وألسنة بقية المدعوات ممن يعتبرن أنفسهن قيّمات على تنفيذ ( قانون الأفراح ) واللاتي يقمن بتسجيل أي تجاوزات أو تعديات على هذا القانون حيث يقمن بالعودة إلى الأرشيف المحفوظ في ذاكرة كل واحدة منهن ليأت الجواب سريعاً : نعم .. إن لدينا معلومات سابقة عن هذا الفستان ، وهو فستان ـ للأسف الشديد ـ غير جديد ، وقد سبق لهذه المرأة المسكينة أن لبسته في فرح سابق ، لتبدأ بعد ذلك حملة التشهير بهذه المرأة وبعقلها الكليل وبزوجها البخيل ، ولذلك فإن بعض النساء ضعيفات الإرادة قليلات الجرأة  المستسلمات للقانون المهيب وللقائمات على تطبيقه يفضلن التخلف عن حضور بعض الحفلات على أن يحضرن بفستان سبق لبسه فيخرقن بذلك التصرف الأهوج القانون الذي لايخرق ، ويعرضن أنفسهن للألسنة الحداد والعقوبات الشداد ، ولم يقتصر هذا القانون على مجتمع النساء بل مدّ سيطرته على الأطفال وبصفة خاصة البنات ولذلك فإن الأسرة التي يوجد فيها مجموعة من البنات وتدعى إلى مجموعة من الأفراح تواجه صعوبة كبيرة في الالتزام بهذا القانون وتكون أمام خيارين : إما أن تساير المجتمع وتجاريه مما يثقل كاهل الأسرة بأعباء مالية كبيرة ، أو أن تقنع بناتها بحضور أكثر من مناسبة بفستان واحد مما يعرّض سمعة الأسرة للاهتزاز ، ويجعلها مجالاً للتندر والسخرية  والغمز واللمز من القائمات على تنفيذ القانون . إن الشرع والعقل يقولان : إن الخيار الثاني هو الصحيح ، ولكن كثيراً من الأسر لاتملك الجرأة الكافية لتنفيذه ،  و تجد نفسها مستسلمة ومنقادة خلف الخيار الأول .

والدعوة عامة

الأصل في وليمة الزواج أنها لإعلان الزواج وإشهاره ونشر خبره على الملأ ، وإعلان زواج رجل وامرأة موجّه بالدرجة الأولى إلى فئة قليلة من المجتمع وهم أقارب هذين الزوجين ومعارفهما وجيرانهما ليشتهر أمر الزواج بينهم ويعلموا به حتى لاتدخل الريبة والشك إلى نفوسهم إذا شاهدوا الزوجين معاً بعد ذلك . ولكن الواقع المشاهد في الوقت الحاضر أنه يدعى للوليمة أشخاص لا يعرفون الزوج أو أهله ، ولا الزوجة أو أهلها ، وإنما هم زملاء وأصدقاء لبعض أقارب الزوجين الذين يوزعون الدعوات الكتابية والشفهية والهاتفية على زملائهم وأصدقائهم ويلحون عليهم في الحضور مع أن فيهم من لا يعرف الزوج ولا حتى اسمه ولم يسبق له أن رآه قبل الوليمة ولن يراه بعدها ، وما قيل عن الرجال يقال عن النساء أيضاً ، بل إن هناك من النساء من تحضر بدون دعوة وإنما من باب الفضول وحب الاستطلاع أو لأن الحفل ستحييه ـ أو على الأصح ستميته ـ فرقة غنائية أو مغنية مشهورة .
ومن أمثلة ذلك أني تلقيت دعوة من أحد طلابي لحضور وليمة زواج (ابن خالته) وليس لي معرفة بالزوج ولا أهله ولا أهل زوجته ولا أحد من أقاربهما وكل معرفتي محصورة في الشخص الذي دعاني .
وترتب على التوسع في دعوات الزواج اضطرار الناس إلى استئجار صالات الأفراح الكبيرة لاستيعاب الأعداد الضخمة من المدعوين ، كما ترتب على هذا التوسع ـ مع تعدد الأشخاص الذين يوجهون الدعوات ـ أن القائمين على إعداد الوليمة وأمام جهلهم بالعدد الحقيقي للذين سيحضرون الوليمة وخوفهم من وقوع الحرج بنقص كمية الطعام يضطرون إلى المبالغة في زيادة كمية الطعام من باب الاحتياط وتحسباً للظروف فينتج عن ذلك في أكثر الأحيان فائض كثير وإسراف كبير كان بالإمكان تلافيه لو اقتصرت الدعوة على أقارب الزوجين وبعض أصدقائهما وجيرانهما .

   وتشد لها الرحال

وقد أدى التوسع في توجيه الدعوات إلى قيام أسرة الزوجين بدعوة أقاربهم المقيمين في مدن أخرى أو أماكن بعيدة ، وما يترتب على ذلك من إحراجهم وتكبيدهم عناء السفر ومشقة الحضور وتعطيل أعمالهم ومصالحهم ، وكان بالإمكان تلافي هذا الحرج بعدم إخراج نطاق الدعوة عن حدود البلد الذي تقام فيه الوليمة ، كما أن الأقارب المقيمين في المدن الأخرى لا تلزمهم إجابة الدعوة إذا كان ذلك يشق عليهم ، وعليهم أن لا يشعروا بالحرج في الاعتذار عن الحضور ، ولا يروا في ذلك أي غضاضة ، أو يشعروا أن في عدم حضورهم تقصيراً في صلة الرحم .
لقد لوحظ في السنوات الأخيرة تزايد معدل السفر وشد الرحال إلى مدن أخرى لحضور حفلات الزواج أو الولائم الأخرى التي تسبقها أو تأتي بعدها ، صحيح أن هناك أشخاصاً لا يمكنهم التخلف عن الحضور باعتبارهم من أفراد أسرة الزوجين ، ولذلك فإن المعيار الذي يضبط هذا الأمر هو مقدار القرابة ، ويمكن ضبط الأمر بشكل أدق في وجود فئة في كل أسرة لا توجه لهم دعوات كتابية ولا شفهية بل هم الذين يوجهون الدعوات كوالدي الزوجين وإخوانهم وأخواتهم فسفر هذه الفئة إلى مدينة أخرى لحضور حفل الزواج أمر منطقي ومعقول لأن هذا الحفل يعنيهم بشكل مباشر ؛ فهم أهل الزوجين وأقرب الناس إليهما، أما ماعدا هذه الفئة فسفرهم لا مبرر له ، وعدم حضورهم لاضرر منه .
 وهناك أمر مهم ينبغي التأكيد عليه هنا وهو أن على أهل الزوجين _ في حالة إصرارهم على دعوة أشخاص من مدن أخرى ـ أن لا يأخذوا الأمر بحساسية زائدة في حالة عدم حضور هؤلاء الأشخاص، وعدم المبالغة في العتاب والسؤال عن الأسباب، كما أن على أقارب الزوجين المقيمين في مدن أخرى عدم توجيه اللوم لأهل الزوجين في حالة عدم دعوتهم ، وأن يستبعدوا التفسيرات السيئة ، ويحملوا الأمر على المحمل الطيب المتمثل في أن عدم توجيه الدعوة لهم راجع إلى الرغبة في عدم إحراجهم والتكليف عليهم وتكبيدهم مشقة السفر .

تعددت الولائم والزواج واحد
اعتادت بعض الأسر  إقامة أكثر من حفل وأكثر من وليمة لزواج أحد أبنائهم أو بناتهم ؛ فهناك الوليمة الرئيسة التي تكون الدعوة فيها عامة وواسعة ، وقد تستمر هذه الوليمة في بعض المناطق لأكثر من ليلة واحدة ، وهناك حفل ووليمة تسبق هذه الوليمة وتسمى ( المِلكة أو الشبكة ) وهناك وليمة أخرى تأتي بعد الوليمة الرئيسة وتسمى ( السابع أو الزيارة ) . وقد كانت الولائم التي تسبق حفل الزواج الرئيس أو تلحقه ولائم بسيطة وغير مكلفة مادياً ، ويدعى لها عدد محدود جداً من أقارب الزوجين ، وتكون في منزل أهل الزوجين ، ولكن التنافس بين الأسر والمبالغة في المظاهر والشكليات جعلت هذه الولائم تخرج في كثير من الأحيان عن وضعها الطبيعي ، وأدت إلى ارتفاع تكاليف هذه الولائم وبالذات في ( المِلكة ) حيث تحتاج الزوجة إلى تجهيز فستان خاص بهذه المناسبة يكلف آلاف الريالات ، وكذلك الحال بالنسبة لأسرة الزوجين ، بالإضافة إلى موائد الطعام وأصناف الحلويات مع مايقدم للمدعوين من هدايا ، كما أدى التوسع في عدد المدعوين إلى خروج هذه الولائم  عن نطاق منزل أهل الزوجين لتصل إلى الفنادق والصالات بحجة ضيق المنازل وعدم استيعابها للمدعوين من الرجال والنساء وأطفالهم .
إن (المِلكة) بوضعها الحالي وتكاليفها المرتفعة وعدد المدعوين إليها تعد وليمة زواج كاملة، وتغني عن كل الولائم التي تأتي بعدها ، وتعد وليمة مثالية لو سلمت من بعض المآخذ والتجاوزات والمنكرات ؛ فهي مثالية من حيث مكان إقامتها فهي تكون في الغالب في المنازل أو في صالات صغيرة بتكلفة معقولة ، وهي مثالية من حيث طريقة توجيه الدعوة التي تكون مشافهة ولا تحتاج إلى بطاقات وكروت بمواصفات معينة ، وهي مثالية من حيث طبيعة المدعوين وعددهم فهم لا يخرجون ـ في الغالب ـ عن أقارب الزوجين وجيرانهما ، وهي مثالية من حيث نوع الأطعمة التي تقدم فيها وحجمها ، فالإسراف محدود وكميات الطعام غير مبالغ فيها .
وعلى الرغم من كونها تعدّ وليمة زفاف كاملة بكل مواصفاتها ، وعلى الرغم ممايصرف فيها من أموال ، ومايبذل فيها من جهد إلا أن كثيراً من الأسر لاتعدّها شيئاً ، وترى أنها لا تخرج عن كونها بداية متواضعة ، وافتتاحاً مبسطاً للحفل الرئيس والوليمة الكبيرة في (ليلة العمر) .

ولا يزالون مختلفين
في الوقت الذي يتجه العقلاء في المجتمعات الأخرى في بعض المناطق والدول الإسلامية  إلى إقامة حفلات الزواج الجماعية رغبة في تشجيع الزواج ، وتخفيف تكاليفه نجد في مجتمعاتنا ظاهرة أخرى تأتي على النقيض مما يحصل في تلك المجتمعات وتسير في اتجاه معاكس له ؛ فالملاحظ هو إقامة حفل مستقل لكل فرد من أفراد الأسرة ولو كانوا أخوة أو أخوات أو أخ وأخته أو أبناء عمومة ، وقد يكون الفاصل بين حفلين لا يتجاوز أسابيع أو أياماً معدودة ، ويعود الأمر في ذلك إلى وجود تنافر في الرغبات ، واختلاف في الأهواء وتعارض في الآراء بين الأسر التي يعنيها أمر هذه الحفلات ؛ فأسرة تريد إقامة الحفل في صالة معينة ، والأسرة الثانية تريد إقامته في صالة أخرى ، وأسرة تميل إلى إحضار مغنية محددة ، والأسرة الثانية تفضل مغنية أخرى ، وأسرة تفضل الاختصار ، وأسرة أخرى تميل إلى التوسع ، وأسرة تريد الالتزام بضوابط الشرع ، وأسرة تريد أن تطلق لنفسها العنان في مجاراة الشيطان ، وأسرة تريد أن تكون زفة ابنتها وفق طقوس وترتيبات معينة ، بينما الأسرة الأخرى لديها ترتيباتها وطقوسها الخاصة بها.
وأمام هذا الاختلاف والتنافر الكبير ، وإصرار كل أسرة على موقفها ، ورفضها التنازل عن (مبادئها) ، وتعذر الوصول إلى حل وسط ، كان الحل الوحيد في إقامة حفل مستقل لكل فرد من أفراد الأسرة مع مافي ذلك من مضاعفة في التكاليف وزيادة في الأعباء وتشتيت للجهد
وحتى في الحالات القليلة التي تتفق فيها الأسر على إقامة حفل واحد أو تجد نفسها مضطرة للقبول بهذا الأمر ـ على مضض ـ بسبب ضغوط أو ظروف معينة ، فإن الخلافات ـ وخاصة بين النساء ـ  لا تلبث أن تظهر إلى السطح قبل الحفل أو أثناءه ، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى التلاسن بالعبارات الجارحة ، والتماسك بالأيدي أمام المدعوات ، وتعمّد كل أسرة إحراج الأسرة الأخرى وتحمليها مسؤولية ماقد يحصل في الحفل من خلل أو تقصير

عون أم دين

تعارفت كثير من القبائل والأسر على قيام المدعوين بتقديم مساعدة نقدية أو عينية تعطى للزوج أو لوالده في ليلة الزواج أو قبلها بأيام قليلة بهدف مساعدة أهل الزوج ومعاونتهم على مصاريف الزواج وتكاليفه ، وهناك عرف موجود عند النساء أيضاً بتقديم مساعدة مالية لوالدة الزوج ، وقد يمتد الأمر لوالدة الزوجة أيضاً ، ويتفاوت حجم هذه المساعدة تبعاً لقرابة المدعو وأحواله المادية ، ولا اعتراض على هذه المساعدة والمعاونة من حيث المبدأ فهي أمر جميل يحث عليه الإسلام ، ويدل على تعاون المسلمين فيما بينهم ، ولكن هناك بعض الأمور السلبية التي نتجت عن هذه المساعدة ينبغي التوقف عندها ، منها ما يتمثل في تعامل كثير من الأزواج وأهليهم مع هذه المساعدة على أنها دين واجب الردّ ، ولذلك يحرصون على إعداد قائمة بهذه المساعدات ونوعها وقيمتها والجهة التي وردت منها ليقوموا بعد ذلك برد هذا الدين في أول مناسبة زواج عند الطرف الآخر حتى لو تأخرت هذه المناسبة ولم تأت إلا بعد سنوات ، وقد يضطر البعض للسفر لحضور حفل زواج في مدينة أخرى من أجل (تسديد الدين) ، وهناك أيضاً فئة ممن قدمت هذه المساعدة ترى أن ماقدمته قرض وليس مساعدة ، ولذلك فهم ينتظرون استعادة هذا الدين عندما يتزوجون أو يزوجون أبناءهم ، ويغضبون لو أن أحداً من الذين (أقرضوه) لم يعد لهم (القرض) أو أعاده ناقصاً عن المبلغ الذي أخذ ، ومن السلبيات أيضاً العرف السائد عند كثير من المدعوين والمدعوات في أن تقديم هذه المساعدة أمر ضروري ، وأن الدفع واجب لا مفر منه ، وما نتج عن ذلك من إثقال كاهل كثير من الأشخاص ، واضطرارهم إلى دفع مبالغ مالية كبيرة تبعاً للعدد الكبير من الدعوات التي يتلقونها بسبب  التوسع ـ غير المحمود ـ في توجيه الدعوات

لا تجب من دعاك

وردت مجموعة من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بإجابة الدعوة ، ولكن هل كل دعوة تجاب ؟ وهل إجابة الدعوة واجبة في كل الأحوال ؟ وهل من تخلف عن الحضور أو خرج بعد حضوره يكون عاصياً ؟ للعلماء تفصيل في هذه المسألة يوضح الأمر بشكل جلي ويجيب عن هذه التساؤلات ؛ فقد نقل ابن قدامة في المغني قول ابن عبد البر "لا خلاف في وجوب الإجابة إلى الوليمة لمن دعي إليها ، إذا لم يكن فيها لهو. وبه يقول مالك والثوري والشافعي والعنبري وأبو حنيفة وأصحابه"10/193 . ثم تحدث عن هذه المسألة بشيء من التفصيل فقال : "إذا دعي إلى وليمة فيها معصية كالخمر والزمر والعود ونحوه وأمكنه الإنكار وإزالة المنكر لزمه الحضور والإنكار ؛ لأنه يؤدي فرضين : إجابة أخيه المسلم ، وإزالة المنكر . وإن لم يقدر على الإنكار لم يحضر . وإن لم يعلم بالمنكر حتى حضر أزاله ، فإن لم يقدر انصرف . ونحو هذا قال الشافعي . وقال مالك : أما اللهو الخفيف كالدف والكَبَر (الطبل الذي له وجه واحد) فلا يرجع . وقاله ابن القاسم . وقال أصبغ : أرى أن يرجع . وقال أبو حنيفة : إذا وجد اللعب فلا بأس أن يقعد فيأكل . وقال محمد بن الحسن : إن كان ممن يقتدى به فأحب إليّ أن يخرج . وقال الليث : إذا كان فيها الضرب بالعود فلا ينبغي له أن يشهدها" 10 / 198 .
كما نقل الإمام ابن حجر في فتح الباري قول ابن بطال : "أنه لايجوز الدخول في الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله ورسوله عنه لما في ذلك من إظهار الرضا بها" 9/250  ثم أورد بعد ذلك أقوال علماء المذاهب الفقهية حول هذه المسألة بالتفصيل فقال : "وقد فصل العلماء ذلك .. قالوا : إن كان لهواً مما اختلف فيه فيجوز الحضور ، والأولى الترك. وإن كان حراماً كشرب الخمر نظر فإن كان المدعو ممن إذا حضر رُفع لأجله فليحضر، وإن لم يكن كذلك ففيه للشافعية وجهان : أحدهما يحضر وينكر بحسب قدرته ، وإن كان الأولى أن لا يحضر . قال البيهقي : وهو ظاهر نص الشافعي ، وعليه جر العراقيون من أصحابه . وقال صاحب ( الهداية ) من الحنفية : لابأس أن يقعد ويأكل إذا لم يكن يقتدى به ، فإن كان ولم يقدر على منعهم فليخرج لما فيه من شين الدين وفتح باب المعصية ، وحكى عن أبي حنيفة أنه قعد ، وهو محمول على أنه وقع له ذلك قبل أن يصير مقتدى به ، قال : وهذا كله بعد الحضور ، فإن علم قبله لم تلزمه الإجابة . والوجه الثاني للشافعية تحريم الحضور لأنه كالرضا بالمنكر .. فإن لم يعلم حتى حضر فلينههم ، فإن لم ينتهوا فليخرج إلا إذا خاف على نفسه من ذلك ، وعلى ذلك جرى الحنابلة . وكذا اعتبر المالكية في وجوب الإجابة أن لايكون هناك منكر ، وإن كان من أهل الهيئة لاينبغي له أن يحضر موضعاً فيه لهو أصلاً ، حكاه ابن بطال وغيره عن مالك ، ويؤيد منع الحضور حديث عمران بن حصين (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين) اخرجه الطبراني في الأوسط" 9 /250 .
هذه أقوال العلماء في إجابة الدعوة التي يكون فيها منكر أو معصية ، وقد أورد هؤلاء العلماء مجموعة من المنكرات التي كانت معروفة في عهدهم ، وبعض هذه المنكرات أخف وأهون وأقل شأناً مما جدّ بعد ذلك ومما هو موجود في عصرنا الحاضر من اختلاط الرجال بالنساء ، ودخول الزوج إلى الأماكن المخصصة للنساء ، والتصوير الفوتغرافي أو بكاميرات الفيديو، وآلات الموسيقى والطرب، والنساء الكاسيات العاريات اللاتي يتنافسن ويستعرضن بتعرية أجسادهن من الأعلى والأسفل والأمام والخلف ، وقد تجاوز التنافس والاستعراض والتحرر كل الحدود ، وبلغ قمته عندما وصل إلى كشف العورات دون خوف من الله أو حياء وخجل من خلقه ، والرقص الخليع والغناء الماجن بكلمات وعبارات لا تخرج عن الحب والغرام والعشق والهيام ، واستعراض وتفاخر وتبذير وعبث بالأموال في شراء الفساتين والمجوهرات ، وعمل المكياج والتسريحات ، واستئجار الصالات الفارهة والمغنيات ، والمبالغة في المظاهر والشكليات ، وتلبيس كل ما يمكن تلبيسه بالورود وأوراق الزينة ، وإسراف وبذخ في الطعام المقدم للرجال والنساء، ومنكرات أخرى كثيرة يتبارى الرجال والنساء في استحداثها وترسيخها والتمكين لها، وجعلها أمراً مألوفاً غير مستغرب ، ومعروفاً غير مستنكر ، ومقبولاً غير مستهجن .
أفلا يحق لنا بعد كل هذا أن نقول للمدعوين والمدعوات : لا تجب من دعاك .