وضع الإسلام مجموعة من القواعد والمبادئ التي تنظم علاقة المسلمين مع بعضهم، وتحكم تعاملهم فيما بينهم؛ حتى لا يخطأ أحد في حق أحد، ولا يبغي أحد على أحد، وحتى تسود المودة والوئام والتفاهم في ما بينهم، وينتهي الخصام والشجار والقطيعة .
ومن هذه القواعد قاعدة إسلامية عظيمة وأصيلة تقوم على مبدأ ( عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به ) ومصدر هذه القاعدة مأخوذ من حديث للنبي e يقول فيه :
" فمن أحب أن يُزَحْزَحَ عن النار ويُدْخَلَ الجنة فَلْتَأْتِه مَنِيّتُه وهو يُؤمن بالله واليوم الآخر ، وَلْيَأْتِ إلى الناس الذي يحبّ أن يُؤتى إليه " ( رواه مسلم )
فمن أراد النجاة من النار ودخول الجنة فما عليه إلا أن يلتزم بهذه القاعدة في تعامله مع من حوله من الناس .
وهذه القاعدة لها صلة وثيقة بقاعدة أخرى تقوم على مبدأ ( أحبّ لأخيك ما تحب لنفسك) وقد أكدّ النبي e على هذا المبدأ، وجعله شرطاً في كمال الإيمان حين قال:
" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ( رواه البخاري ومسلم )
وهذه القاعدة عبارة عن ميزان يرجع إليه الإنسان كلما اشتبه الأمر عليه، واحتار في تصرف، أو شكّ في سلوك، فالرجوع إلى هذه القاعدة، وتطبيقها، وتحكيمها يعطيه إجابات سريعة، وحاسمة عن الأسئلة التي تدور في ذهنه عن سلوك معين، أو تصرف محدد: هل هو سلوك جيد أم رديء ؟ هل يقدم على هذا التصرف ويمارسه، أم يتجنبه؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات، ولقطع دابر الحيرة والشك، ما عليه إلا أن يسأل نفسه سؤالاً واحداً: ما الذي أريده من الناس في مثل هذه الحالة ؟ وما الذي أنتظره من الطرف المقابل لو كان في مكاني ؟ وعلى ضوء الإجابة التي تأتيه من داخله يكون تصرفه وسلوكه، وعند ذلك تكون الصورة واضحة أمامه، فيقدم على التصرف على بينة ودراية بما يفعل .
وسنعرض فيما يلي بعض الأمثلة من السلوكيات، والتصرفات، والأخلاق التي نعايشها في حياتنا اليومية، ونشاهدها، ونلمسها في تعاملنا مع من حولنا، مع ربطها بهذه القاعدة :
* لا تحب أن يغتابك أحد، أو يذكرك بسوء وأنت غير موجود، فلا تغتب أحداً أو تذكره بسوء في غيابه، ولا تكن من الذين إذا كان الشخص موجوداً توددوا إليه بالابتسام، والكلام الجميل، وأسمعوه المدح والثناء، فإذا خرج بدؤوا في نهش عرضه، وذكر عيوبه، وتعداد مثالبه.
* لا تحب من الناس أن يدققوا على أخطائك ، ويتوقفوا عند هفواتك ، ويعدّون عليك زلاتك، ويفتّشون عن عيوبك، ويفضحونك بين الناس، ويتعمدون إحراجك أمامهم، وينصحونك على رؤوس الخلائق، فعاملهم بالصفح، والعفو، والتجاوز عن الأخطاء، والزلات، والهفوات، واستر عيوبهم، وأغمض عينيك عن سيئاتهم، وانصحهم باللطف، واللين بعيداً عن أعين الناس، ونظراتهم، ولا تؤذِ شعورهم، ولا تتعمد إحراجهم.
* لا تحب أن يتكبر عليك أحد، أو يعاملك باحتقار، أو ازدراء، أو يتلفظ عليك بعبارات نابية، أو ألفاظ بذيئة، فتواضع للآخرين، وعاملهم باحترام، واسمعهم الكلام الطيب، والألفاظ الجميلة .
* لا تكن من الذين يريدون أن يعرفوا كل شيء عن الناس، وحياتهم الخاصة، وأمورهم الشخصية والعائلية، ويسألون عن كل صغيرة وكبيرة، وينبّشون ويفتّشون، وإذا سألهم أحد عن أمور تتعلق بهم، أو أراد معرفة بعض التفاصيل، ظهرت عليهم علامات الامتعاض، والتذمر، والتأفف، وبدؤوا في المراوغة، واللف، والدوران، والانشغال بأمور أخرى، أو تجاهل السؤال، والإيحاء بأنهم لم يسمعوه، أو أجابوا إجابة مقتضبة فيها الكثير من الغموض المتعمّد تجعل السائل يكتفي بما حصل عليه، ويلتزم الصمت، ويتمنى لو أنه ما سأل، فإذا كنت لا تحب أن يتدخل أحد في خصوصياتك، أو يسألك عن أشياء، أو أمور لا تحب التحدث عنها، أو النقاش فيها، فلا تتدخل في خصوصيات الناس، ولا تلح عليهم بالسؤال في أمور لا يريدون التحدث عنها، ويريدون إبقاءها في طي الكتمان، فكيف تجيز لنفسك ما ترفضه من غيرك؟ وكيف تعتبر ما تقوم به حب استطلاع، وأمراً عادياً، وعملاً مشروعاً لا غبار عليه، بينما إذا صدر من غيرك أصبح لقافة، وسوء أدب، وتطفّل، وحشر للنفس في أمور لا تعنيها ؟
* يرى الأب والأم أولادهما يعتدون على أولاد الآخرين، ويعبثون بممتلكاتهم، ويستولون على ألعابهم، فلا يحركون ساكناً، ولا ينهرون أحداً من أولادهم، ولا يؤنبونه، أو على الأقل يحجزونه ويمنعونه من التمادي في الإساءة إلى أولاد الآخرين ،ولا يسمحون لأحد بتأنيب أولادهم، أو ضربهم بحجة أنهم أطفال صغار لا يفهمون، ومن غير المناسب تدخّل الكبار فيما يحصل بين الصغار. ولكن الأمر يختلف تماماً عندما يحصل العكس، ويتعرض أولادهم للاعتداء من قبل أولاد الآخرين؛ فترى العجب العجاب، حيث تشتعل الحمية، وتتحرك النخوة، فهم في صفّ أولادهم على طول الخط، وأولادهم على حق في كل ما صدر منهم، وأولادهم معتدى عليهم، ومظلومون، وهم أبرياء من أي تهمة، أو إساءة، بينما الطرف الثاني هو الظالم، والمعتدي، والمخطأ.
لماذا يرى الرجل والمرأة أخطاء الآخرين مهما كانت صغيرة، ويتوقفون عندها مهما كانت تافهة، ولا يرون أخطاءهم، أو أخطاء أولادهم مهما كانت كبيرة، ولا تستوقفهم مهما كانت جسيمة؟ ألا ينطبق عليهم المثل القائل ( يرى الإبرة في عيون الناس، ولا يرى العتلة في عينه) ؟ إن العدل، والإنصاف يقتضي أن يكون الإنسان عادلاً مع الآخرين حتى لو كانوا أعداءه، وأن ينصفهم من نفسه، ومن أولاده حتى لو كان يكرههم، ولا يرتاح للتعامل معهم .
* لا تحب أن يسيء إليك جيرانك، أو أن تتعرض ممتلكاتك، أو أولادك للأذى من أولادهم، فأحسن أدب الجوار معهم ، وامنع أولادك من التعرض لممتلكاتهم أو أولادهم .
* لا تحب أن توقف سيارتك في أحد الأماكن، وتعود إليها فتجد أن هناك من أوقف سيارته بطريقة تمنعك من الخروج، فلا توقف سيارتك بطريقة تتسبب في تعطيل الآخرين.
* لا تحب أن تذهب إلى إحدى الإدارات الحكومية لمراجعة معاملة، أو إنجاز أمرٍ ما، فتجد الموظف المختص غير موجود على مكتبه، أو تجد موظفاً يتعمّد تعطيل معاملتك، أو يماطل في إنجازها، أو يطالبك بأمور إضافية لا داعي لها، أولا موقع لها في النظام ، فإذا كنت موظفاً فألزم مكتبك، وأنجز مصالح الناس، ومعاملاتهم أولاً بأول ، ولا تكن سبباً في تعطيلها.
* لا تحب أن يتقدم عليك أحد وأنت تقف في طابور، أو تنتظر دورك في إحدى الإدارات الحكومية، أو المستشفيات، أو البنوك، أو حتى عند بائع الخبز، فعوّد نفسك على الوقوف مع الناس في الطابور، والتزم بدورك، ولا تحاول أن تتجاوز غيرك، أو تتقدم عليهم .
وأخيراً ينبغي أن تعلم أن تعاملك مع الناس وفق هذه القاعدة يعني أنهم لن يجدوا منك إلا الأخلاق الفاضلة، ولن يشاهدوا منك إلا السلوكيات الراقية، ولن يسمعوا منك إلا الألفاظ الكريمة؛ لسبب بسيط جداً، وهو أن هذه الأمور هي التي تريد أن يعاملوك بها، وهي التي تريد أن تراها وتسمعها منهم، فتجد نفسك مندفعاً إلى التزامها، والعمل بها، لأن ذلك هو الثمرة الطبيعية، والنتيجة الحتمية التي يدعوا إليها العقل والمنطق، ويقود إليها التفكير السليم ؛ إذ كيف تطالب الناس بشيء لا تلتزمه، ولا تعمله، وكيف تفرض عليهم أشياء، وتجبرهم على أمور لم تفرضها على نفسك، ولم تجبرها عليها.
إذا كنت تريد من الناس معاملة طيبة، وأخلاقاً فاضلة، وسلوكاً حسناً؛ فابدأ بنفسك أولاً، وأقنعها بأن ( تعامل الناس بما تحب أن يعاملوها به )